(1)
في كثير من الأحيان تتحول «القوة» إلى ضعف.. من كثرة الوهم بأهمية هذه القوة ونفوذها، ومن كثرة المبالغة في استخدام هذه القوة إلى درجة الشعور بأنها أكبر من الزمن وتقلباته.. ومن الدهر وعادياته وأكبر من كل ما يجعلها عُرضة للنقد الدائم والهجوم المضاد، والعدائية الآتية من كل الأطراف.. وفي مجمل الأحوال تتآكل هذه القوة من داخلها، نتيجة الأخطاء المتراكمة لأية دولة، وإفراز لخطاياها السياسية والعسكرية ومغامراتها التي لا تنتهي، وقراراتها التي تستند على قراءات خاطئة لكل الأحداث والقضايا.. ولأوضاع المجتمعات الأخرى.. التي هي على حالة مختلفة غير الحالة التي تبني هذه الدولة الكبرى فهمها وعقليتها عليها.. عبر رؤية مسبقة وخاطئة..
هكذا هو راهن الولايات المتحدة الأمريكية وتعاملها مع هذا العالم ودوله الكبيرة والصغيرة معاً، هذا هو العقل الأمريكي اليوم الغارق في وهم القوة والذي يبدو تائهاً في صحراء السياسة الأمريكية المفتوحة على هذا الأفق الزمني اللامحدود.. والذي يؤكد أن العقل الأمريكي تأسس على ثقافة الاستعلاء والفوقية، وقام على عدم قراءة وسماع الثقافات المختلفة المضادة التي تحولت إلى تاريخ، وإرث، وذاكرة عند الشعوب الأخرى المتخاصمة، والمعادية للسياسة الأمريكية من العرب، المتضرر الأكبر من هذه السياسة جراء الدعم الواضح والفاضح لإسرائيل وما تفعله في الفلسطينيين، وإلى دول أمريكا اللاتينية.
(2)
يقول الطيب صالح في مقالته الأسبوعية بمجلة «المجلة» تحت عنوان «سقوط رامسفيلد»: «أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية مخلوقاً غريباً حتى في أحلك سنوات التطرف والهستيريا، لقد صارت بكل تاريخها ومُثلها العليا وهيكلها وهيلمانها، كأنها مخلوق غريب في جسم المجتمع الدولي، صارت تفتعل الأزمات وتصطنع الحروب وتعادي منظمات الأمم المتحدة وترفض ما يجمع عليه رأي الدول الأخرى في قضاياهم البشرية كلها.
هذا الرأي يتفق معه أغلبية العقلاء في العالم وأكثرية الذين لديهم حس وطني، وتوجه قومي، في كل مكان في هذا وفي أية دولة، ذلك أن أمريكا لم تحافظ على اسمها وتاريخها وهويتها..
.. وكان بإمكان هذه الدولة العظمى أن تتحول إلى «نموذج» حضاري ناصع للدولة الحديثة القائمة أدبياتها وبرامجها وايديولوجياتها على ترسيخ قيم الديمقراطية والعدالة والتسامح والتعددية ومثال للدولة التي لا تتحدث ولا تتكئ على الماضي، ولكن الدولة التي تصنع المستقبل، وبوصفها الدولة التي تمثل العصر الحديث، ومنارة العلم الحديث والممثل الحقيقي لثورة المعرفة والعقل الحديث.. لكأنما تتجه أمريكا اليوم إلى تشويه صورتها عمداً.. وإلى محاولة إلغاء الصورة/ الرمز في الذهنية العالمية وتقديم الصورة «الكارثية» في كل أبعادها السيئة والرديئة، على الصورة المضيئة التي ينبغي أن تتكرس وأن تسود.
كأنما هي حالة الذهاب إلى «فناء» أمريكا من داخلها ممثلاً ذلك في رمزية الصورة ورمزية المعنى، بل قد يصبح المعنى لا معنى له في حالة الدولة التي تذهب إلى الحد الأقصى من الخصومة مع العالم.. وتخترق السيادة الوطنية للدول وتعود إلى مرحلة الاستعمار وما قبلها.. ولعل ما يحدث في العراق دليل على غياب القيمة الأخلاقية لمفهوم الدولة الكبرى، لا هذه الفوضى الخلاقة بحثاً عن النفط والمصالح الخارجة على تلك القيم الأمريكية التي جاءت بها أمريكا نفسها عبر تلك الأدبيات الحضارية الرفيعة التي قلنا بها آنفاً.
(3)
أستعيد هنا بعض مقاطع القصيدة التي كتبها الشاعر العربي الكبير أدونيس التي جاءت تحت عنوان «قبر من أجل نيويورك» التي كتبها في الفترة ما بين 25 آذار في نيويورك و15 آيار في بكفيا سنة 1971م.. يقول أدونيس:
نيويورك.. حضارة بأربع أرجل
كل جهة قتل وطريق إلى القتل
وفي المسافات أنين الغرقى
.. في النص يقرأ أدونيس المدن والأحياء والعوالم التي تختبئ وتختفي في ثنايا الواقع والتاريخ، حيث تتداخل الأزمنة والأمكنة معاً..
يقول أدونيس:
تفتتي يا تماثيل الحرية
أيتها المسامير المغروسة في الصدور
بحكمة تقلد حكمة الورد
الريح تهب ثانية من الشرق
تقتلع الخيام وناطحات السحاب
.. انها قصيدة تقرأ حريق نيويورك عبر برجي التجارة من خلال رمزين يمثلان الشموخ الأمريكي..
إذن.. هل أمريكا اليوم تبحث عن فنائها أكثر مما تبحث عن بقائها، ذلك أن حركية التاريخ ومكر هذا التاريخ يفضي بالقوة إلى حالة ضعف وكل شيء يستحيل إلى موت في الداخل.. ولعل نيويورك وهي تمثل وجه أمريكا المضيء والقميء، في آن هذه المدينة التي رآها وقرأها منذ خمسة وثلاثين عاماً:
مدينة تتكئ على عكاز الشيخوخة..
وتتنزه في حدائق الذاكرة
نيويورك الصخرة التي تتدحرج
فوق جبين العالم..
a_faqehi@hotmail.com
في كثير من الأحيان تتحول «القوة» إلى ضعف.. من كثرة الوهم بأهمية هذه القوة ونفوذها، ومن كثرة المبالغة في استخدام هذه القوة إلى درجة الشعور بأنها أكبر من الزمن وتقلباته.. ومن الدهر وعادياته وأكبر من كل ما يجعلها عُرضة للنقد الدائم والهجوم المضاد، والعدائية الآتية من كل الأطراف.. وفي مجمل الأحوال تتآكل هذه القوة من داخلها، نتيجة الأخطاء المتراكمة لأية دولة، وإفراز لخطاياها السياسية والعسكرية ومغامراتها التي لا تنتهي، وقراراتها التي تستند على قراءات خاطئة لكل الأحداث والقضايا.. ولأوضاع المجتمعات الأخرى.. التي هي على حالة مختلفة غير الحالة التي تبني هذه الدولة الكبرى فهمها وعقليتها عليها.. عبر رؤية مسبقة وخاطئة..
هكذا هو راهن الولايات المتحدة الأمريكية وتعاملها مع هذا العالم ودوله الكبيرة والصغيرة معاً، هذا هو العقل الأمريكي اليوم الغارق في وهم القوة والذي يبدو تائهاً في صحراء السياسة الأمريكية المفتوحة على هذا الأفق الزمني اللامحدود.. والذي يؤكد أن العقل الأمريكي تأسس على ثقافة الاستعلاء والفوقية، وقام على عدم قراءة وسماع الثقافات المختلفة المضادة التي تحولت إلى تاريخ، وإرث، وذاكرة عند الشعوب الأخرى المتخاصمة، والمعادية للسياسة الأمريكية من العرب، المتضرر الأكبر من هذه السياسة جراء الدعم الواضح والفاضح لإسرائيل وما تفعله في الفلسطينيين، وإلى دول أمريكا اللاتينية.
(2)
يقول الطيب صالح في مقالته الأسبوعية بمجلة «المجلة» تحت عنوان «سقوط رامسفيلد»: «أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية مخلوقاً غريباً حتى في أحلك سنوات التطرف والهستيريا، لقد صارت بكل تاريخها ومُثلها العليا وهيكلها وهيلمانها، كأنها مخلوق غريب في جسم المجتمع الدولي، صارت تفتعل الأزمات وتصطنع الحروب وتعادي منظمات الأمم المتحدة وترفض ما يجمع عليه رأي الدول الأخرى في قضاياهم البشرية كلها.
هذا الرأي يتفق معه أغلبية العقلاء في العالم وأكثرية الذين لديهم حس وطني، وتوجه قومي، في كل مكان في هذا وفي أية دولة، ذلك أن أمريكا لم تحافظ على اسمها وتاريخها وهويتها..
.. وكان بإمكان هذه الدولة العظمى أن تتحول إلى «نموذج» حضاري ناصع للدولة الحديثة القائمة أدبياتها وبرامجها وايديولوجياتها على ترسيخ قيم الديمقراطية والعدالة والتسامح والتعددية ومثال للدولة التي لا تتحدث ولا تتكئ على الماضي، ولكن الدولة التي تصنع المستقبل، وبوصفها الدولة التي تمثل العصر الحديث، ومنارة العلم الحديث والممثل الحقيقي لثورة المعرفة والعقل الحديث.. لكأنما تتجه أمريكا اليوم إلى تشويه صورتها عمداً.. وإلى محاولة إلغاء الصورة/ الرمز في الذهنية العالمية وتقديم الصورة «الكارثية» في كل أبعادها السيئة والرديئة، على الصورة المضيئة التي ينبغي أن تتكرس وأن تسود.
كأنما هي حالة الذهاب إلى «فناء» أمريكا من داخلها ممثلاً ذلك في رمزية الصورة ورمزية المعنى، بل قد يصبح المعنى لا معنى له في حالة الدولة التي تذهب إلى الحد الأقصى من الخصومة مع العالم.. وتخترق السيادة الوطنية للدول وتعود إلى مرحلة الاستعمار وما قبلها.. ولعل ما يحدث في العراق دليل على غياب القيمة الأخلاقية لمفهوم الدولة الكبرى، لا هذه الفوضى الخلاقة بحثاً عن النفط والمصالح الخارجة على تلك القيم الأمريكية التي جاءت بها أمريكا نفسها عبر تلك الأدبيات الحضارية الرفيعة التي قلنا بها آنفاً.
(3)
أستعيد هنا بعض مقاطع القصيدة التي كتبها الشاعر العربي الكبير أدونيس التي جاءت تحت عنوان «قبر من أجل نيويورك» التي كتبها في الفترة ما بين 25 آذار في نيويورك و15 آيار في بكفيا سنة 1971م.. يقول أدونيس:
نيويورك.. حضارة بأربع أرجل
كل جهة قتل وطريق إلى القتل
وفي المسافات أنين الغرقى
.. في النص يقرأ أدونيس المدن والأحياء والعوالم التي تختبئ وتختفي في ثنايا الواقع والتاريخ، حيث تتداخل الأزمنة والأمكنة معاً..
يقول أدونيس:
تفتتي يا تماثيل الحرية
أيتها المسامير المغروسة في الصدور
بحكمة تقلد حكمة الورد
الريح تهب ثانية من الشرق
تقتلع الخيام وناطحات السحاب
.. انها قصيدة تقرأ حريق نيويورك عبر برجي التجارة من خلال رمزين يمثلان الشموخ الأمريكي..
إذن.. هل أمريكا اليوم تبحث عن فنائها أكثر مما تبحث عن بقائها، ذلك أن حركية التاريخ ومكر هذا التاريخ يفضي بالقوة إلى حالة ضعف وكل شيء يستحيل إلى موت في الداخل.. ولعل نيويورك وهي تمثل وجه أمريكا المضيء والقميء، في آن هذه المدينة التي رآها وقرأها منذ خمسة وثلاثين عاماً:
مدينة تتكئ على عكاز الشيخوخة..
وتتنزه في حدائق الذاكرة
نيويورك الصخرة التي تتدحرج
فوق جبين العالم..
a_faqehi@hotmail.com